الثلاثاء، 2 مايو 2017

غروب... بقلم / المنجي حسين بن خليفة .. تونس......صفوة الكُتَّاب العرب

مجرّد ورقة بيضاء، مثل باقي الورق، انحشرتْ داخل ظرف أصفر باهت، كئيب، يحمل على ظهره طابعاً حكوميا أزرقا، ارتجفتْ يده قبل أن يستلمه من يد ساعي البريد، هو يكره المراسلات الرسمية، يكره لغتها الجافة والركيكة، يكره شكلها، و مفاجآتها غير المنتظرة، ويكره أوامرها وتواريخها. العينان برق منهما خوف ما سيحمله هذا الظرف من أخبار، ودقات القلب أصرّت على الحضور، فزادتْ في ارتعاش الأنامل فتمزّق الظرف من أطرافه، استلّ تلك الورقة وقلبه يتوجّس منها خيفة، قليل من الخطوط تجمّعتْ في أعلها، والباقي بياض لا يشوبه سواد.
قرأ كلماتها القليلة، جلس من بعد الوقوف، مفاصله أصابه وهن ما عرفته من قبل، ملامح الوجه سطّرتْ على صفحتها كلّ معاني الحزن، الروح فزعتْ من بعد السكون، وبحيرة النفس أصابها حجر هذه الرسالة فاضطربت، امتطى جناحَيْ ذاكرته، واتّخذها مهربا، رأى نفسه ذلك الشاب الطويل، الأنيق، ذي الشعر الأسود المرتب بعناية، الحيوية له زاد، ونشاطه ما عرف طعم الفتور، بيده اليمنى محفظته الحمراء الجلدية، هي كنزه، ومفخرته، تلاميذه الصغار اصطفوا أمام الفصل، وقف أمامهم ، صمت الجميع بانتظار قولته الشهيرة: يا أبنائي هذا محراب العلم فادخلوه بخشوع.
أجيال مرّت سكب في كأسها عصارته، حفظ كثير من الأسماء والوجوه، كانوا أطفالا صغارا صفحاتهم بيضاء يأتون إليه، فيكفر تحت رداء بياضها بذور علمه، يمرّون في مسالك الحياة ليأتي غيرهم، جيل إثر جيل يعبرون جسره من ضفّة الجهل لضفّة العلم، الكلّ يمرّ وهو باق، تتفرّق بهم السبل وليس له سبيل سواهم، يعبرون وقد أخذوا من روحه نصيبا، ومن عمره سنينا، لو رأى أحدهم حاز من الدنيا حظّا، ومن العلم قبسا، شعر أنّ له جذوة من علمه في مشكاته، وحبلا من روحه يمتدّ لروحه، فلولا ما بذره في بياض صفحته ما كان ليفتح له العلم بابا، وما قرأت له الدنيا حسابا.
كان إذا اختلى والروح كانت له جليسا، صارحها بشعور هو إكسير حياته، هو زاده في جراب رحلته التي يراها بالعدّ طالتْ، وبما هوت النفس وتعلقتْ بأهذاب مبتغاها يراها مازالتْ في بداياتها، شعور تدثّر بالرضا، واتّخذ الطمأنينة مرفأ، يشعر أن دوره في الحياة مازال يرفع مرساته، ويبسط للرياح شراعا، يقول لنفسه: هناك أناس يعبرون جسر الحياة، فتنمو من خلف آثار خطاهم نجوم أفكار تدلت تضيء لمن هوى السير في دروب العلم فتهديهم السبيل، وهناك أناس تغيب أسماؤهم حين يغيبون، فلا يبقى لهم ذكرا ولا ظلا، وكل خوفي أن تضيع خطاي قبل إنهاء المسير، فيضيع كل حلم قد بنيتُ، ويموت كلّ بذر قد رويتُ.
نظر للورقة التي مازالت تتأرجح بين أنامله، قرأها للمرّة ثانية لعلّه لم يفهم ما قالت في المرّة الأولى، لعلّ كلماتها القليلة لها معنى آخر غير الذي فهمه، لكن لا مهرب، جفاف معانيها لا يحمل إلاّ وجه مكفهرّ واحد:
"الرجاء مدّنا في أقرب وقت ممكن بالأوراق المطلوبة لإحالتك على التقاعد في الشهر القادم".