الاثنين، 8 مايو 2017

بائع الأقنعة... بقلم / المنجي حسين بن خليفة .. تونس......صفوة الكُتَّاب العرب

هي عادة، من الصعب بعدما اتّخذتها رفيقة كلّ هذه السنوات، أن أقول لها: أما آن لنا أن نستريح؟ بعد كلّ هذه السنين مازالتْ كالشلال تنهمر على الألوان تجذبها، تدفعني في ممرّات وإن اتسعتْ فبروّادها تضيق، همسٌ أراه بين الشفاه بلا صوت، موسيقى هادئة تمرح بين الآذان، الكلّ يسمعها ولا يلقي لها بالا، عيون تأرجحتْ بين تباين الألوان، فترى ما خلفها من عوالم غير التي تعرفه وتدركه.
رأيت زحمة فانجذبتُ إليها، شققتُ عُبابَها فرأيتُ ما أوقفهم، وأدهشني ما رأوا. رجل منفوش على كرسيّ خيزراني، كثّ اللّحية والرأس، أزرار قميصه انفلتتْ لحدود انتفاخ البطن، باقي الأزرار تئنّ من جهد ما تعانيه، رقبة غليظة تدلّ منها سلسال ذهبي كاد يغوص في كثافة شعر الصدر، طاولة حديدية الصغيرة عليها فنجان حوى ثمالة قهوته، وأعقاب سجائر تناثرت حول الطفّاية بعدما امتلأتْ.
من خلفه محلّ متّسع، عرض فيه أقنعة وجوه بأشكال غريبة ومتنوعة، اختلفت ألوانها ، تفاوتت أحجامها ، فما رخص ثمنه، واستهلك من كثرة الاستعمال تكوّم أمام المحل، وما غلى ثمنه عرضه خلف بلّور مصقول ومُضيء ، ينتظر أصحاب الدراهم المُكتَنزة ليلبسوا منها ما يوافق الموقف الذي هم فيه، المحل امتلأ بالباحثين عن أقنعة جديدة، فأقنعتهم القديمة تآكلت واهترأتْ.
كأنّ الذين أراهم أعرفهم، أليستْ هذه المرأة التي بيدها قناع التقوى، والخشوع، هي التي تظهر به علينا كلّ يوم؟ يا الله، ما أبشعها بلا قناع، كيف استطاع أن يخفي كل هذا الشراسة المطلة من ملامح وجهها، وهذا، أليس هو من يظهر علينا في كلّ القنوات التلفزية بقناعه الثوري، قناع يجذب إليها من لا يعرفون خفايا الأقنعة، هاهو وجهه الحقيقي تقرأ في كلّ تفاصيله معاني الانحطاط والذل، والكذب المرسوم بعناية. وفي هذه الزحمة يطلّ وجه شاب يقلّب في أقنعة العاشقين، لعلّه يجد قناعا يلائم شراكه. لكن ما الذي جاء بإمامنا؟ أيكون كل ذلك الورع قناعا؟.
وقبل أن أكمل التفرّس في وجوه باقي الراغبين في ارتداء الأقنعة، صرخ صاحب المعرض:
ـ لوحة بائع الأقنعة معروضة للبيع، من يشتري؟
تدافع كلّ الحاضرين لاقتنائها، همس أحدهم في أذني من ورائي:
ـ أتعرف لماذا يرغب الجميع في اقتناء هذه اللوحة؟ يريدون اخراجها من المعرض، إنّها تفضحهم، الكلّ يرى حقيقته فيها.
لم ألتفت إليه حتى لا يرى وجهي فيها.