الثلاثاء، 14 مارس 2017

البطل الصغير......... لــــــــ د. إيهاب بديوي.......صفوة الكُتَّاب العرب

فرحت جدا عندما وجدت خمس بيضات بيضاء صغيرة تزين العش الملحق بالقفص، وسعادتي كانت تتحول إلى متعة عندما أراقب الذكر ذو الألوان الصفراء الزاهية يتراقص ويشدو ويحوم حول الأنثى الراقية المتعالية الواقفة بكبرياء بأجنحتها الخضراء الزاهية وبطنها الأزرق كموج البحر الصافي فوق جسر صنعته لهما ليمارسا هوايتهما في القفز والطيران داخل مساحة حريتهما المحدودة، وأعلم أن من عادات هذا النوع الإخلاص، يموت أحدهما لو فقد الآخر، أحتاج إلى هذا الإحساس المفقود وسط كل هذه الصراعات البشرية اليومية التي لا تنتهي.
عددت الأيام بالساعة والدقيقة، اليوم هو الموعود، حصلت على إجازة من العمل وجلست بقربهما أراقب الموقف، كنت أتابع صديقي القلق وعينه لا تنتقل عن فتحة العش الصغير، زوجته لم تخرج منذ الأمس، ينقل لها الطعام كل حين ويقف قليلا على الباب فأقترب منه لعله ينقل لي ما يحدث في الداخل، أصبحت أميز أصواتهم، منذ فترة نسيت إطعامهم ونزلت إلى عملي، لكني تذكرت فعدت مسرعا دون أن أستأذن، لن يستطيع تقديم الطعام لهم غيري، بمجرد دخولي من باب الشقة كان صوتهما مرتفعا، أستطيع التمييز بين الذكر والأنثى، كان حوارا أشبه بالإستغاثة، وصلت لهما ملهوفا وقلبي ينفطر، بمجرد أن شاهداني صمتا، ثم كان الموقف الأكثر إيلاما لي، أعطياني ظهرهما، لا يريدان أن يرياني، انفطر قلبي، بعد أن وضعت لهما الطعام جلست إلى جوار القفص أعتذر لهما، لم يتقبلا، ولم يقبلا على الطعام، وضعت يدي على رأسي، حكيت لهما عن موقف مشابه حدث لي في صغري عندما نسيت والدتي إطعامي وذهبت إلى عملها ولم تنتبه جدتي، كنت في الخامسة تقريبا، طلبت من جدتي الطعام فوعدتني أنها ستطعمني بعد قليل، نسيت وانشغلت في شيئ ما، وتضورت جوعا، لكن لم أطلب من جدتي مرة أخرى ونمت من الجوع، أو أغشي علي، عادت والدتي فوجدتها عند رأسي تبكي عندما أبلغتها جدتي أنني لم أتناول طعاما منذ الصباح، اعتذرت لي كثيرا، لكني فعلت مثلهما، كانت صدمتي فيها أكبر من قدرتي على تقبل اعتذارها.. سمعت نقرا على القفص، كانا إلى جواري ينظران إلي، ثم في هدوء نزلا إلى الطعام دون أن يصدر عنهما صوت، عرفت أننا أخذنا علاقتنا إلى مستوى أعلى.
قمت من غفوة سريعة على صوت همس رقيق، فتحت عيني غير مصدق، لقد فقست البيضة الأولى، اقتربت من القفص وفرحتي أكثر من فرحتي بمولد ابنتي، ما أن رآني الذكر حتى أطلق صيحات خافتة ثم أسرع إلى العش ووقف على الباب، حسدته بشدة، لم تخرج الأم ليومين تاليين، كنت أميز كل يوم صوتا جديدا، إنهم يفقسون الواحد تلو الآخر، كانت أسعد لحظات حياتي، طلبت من ابنتي أن تطلق على الأم والأب أسماءا حتى أستطيع تمييز الأبناء فيما بعد، اختارت بداية الحياة، رغم سنوات عمرها العشر، إلا أنها تتفهم كيف بدأ كل شيئ، آدم وحواء، وافقت على الفور، بعد عدة أيام من الترقب كان يجب علي أن أنظف العش الصغير حتى لا تقتل الصغار بقايا مخلفاتهم، أعددت نفسي جيدا، أعددت أدوات معقمة وطلبت من زوجتي وابنتي مساعدتي، تحمستا لي كثيرا، عزلت الوالدين وأخذت العش وسط صياح لا ينقطع من حواء، رغم العلاقة القوية التي أصبحت بيننا إلا أنها لا تثق في بعد، لا يهم، بعد قليل ستعرف أنني أساعدها، فتحت الباب الخلفي، أخرجت الصغير الأول، كانت ريشات بيضاء وزرقاء قد بدأت تغطي زغب جسمه، سيكون مختلفا وزاهيا ونادرا أيضا، مرحبا يا صديقي، قفز قلبي من الفرحة وأنا ألمسه، أخرجت شقيقه الثاني، كان مزيجا من الأصفر والأخضر، ثم صغيرين لم يخرج ريشهما بعد، ارتعشت يدي وأنا أرى الخامس بلا حراك، كانت خمس بيضات إذن، كيف مات ذلك الصغير؟ هل اختنق؟ هل دهسه أشقاؤه؟ هل مات جوعا؟ كان يجب أن أكشف عليهم مبكرا قليلا، انقبض صدري وتسارعت نبضات قلبي، لم أستطع الحراك، ابتسمت ابنتي التي لم تلاحظ حزني وهي ترى الصغار وطلبت من أن تسميهم، ابتسمت لها وأومأت برأسي،
الأبيض قمر، الأصفر شمس، الصغيران بعد أن يكبرا، وافقت على رأيها، بعد قليل أسرعت بتهيئة العش وإعادة إدخال الصغار، جلست إلى جوارهم والحزن يعتصرني، شاهدت الأم تنظر لي وتهمس، ابتسمت لها، ثم قمت أستعد لإجراء جنازة للصغير الأول.
اهتممت بهم أكثر، بعد أسبوعين خرج أحد الصغار، كان أخضرا تماما، أحد من لم نسميهم، سعدت جدا، في الصباح سأجعل ابنتي تسميه، وفي الصباح كانت الصدمة الثانية، وجدت الصغير ميتا، جن جنوني، هناك شيئ ما يحدث، أسرعت إلى طبيب متخصص، أخبرني أن الموت طبيعي في هذا العمر بسبب الضعف وعدم القدرة على تناول الطعام، أحضرت كل الأدوية الممكنة ووضعتها في الماء بمقادير محددة وراقبت الموقف، بعد أسبوع خرج الأصفر شمس، وقف في أسفل القفص، تشاءمت وراقبته، قبل الصباح كان متوفيا، فقدت قدرتي على المقاومة، أوشكت على إلقاء المجموعة كلها خارج المنزل، كانت عندي عدة خيارات، أحررها؟ خشيت أن يصطادها غراب جائع أو تقاسي لتتكيف مع حياة التشرد وسط مجتمع لا يرحم.
أبيعها؟ لقد ولدت على يدي وعشت جميع مراحل حياتها وقصة الحب الخالدة التي أثمرت الصغار بعد أكثر من عام من الإنتظار، هل نرمي من نحب لمجرد أن الألم المتولد عن حبهم أكبر من المتعة في قربهم؟ أليس الحب قطعة من العذاب، القرب نار والبعد جحيم، وما بين النار والجحيم تكمن جنة خفية، سأقف إلى جوارهم للنهاية، منحوني قدرة على المواصلة.
مر الأسبوع التالي هادئا، قمر يخرج ويدخل في حيوية ونشاط، يقفز داخل القفص وتبدو ألوانه الزاهية الجاذبة كأنه جمال فوق الجمال، ارتبط به أكثر، أطلقت ابنتي على الصغير المتبقي ورد بعد أن شاهدت لونه الأخضر الزاهي، في اليوم الجديد صدمني شكل قمر، فجأة يقف بلا حراك في أسفل القفص، هل سيموت هو الآخر؟ كان يملأ المكان حركة ونشاطا، سألت الطبيب فأخبرني أن أراقب تحركاته وطعامه ومخرجاته، كان يعاني من إسهال واضح، أصابه مرض في معدته إذن، سأترقب موته كما أخبرني الطبيب، أخذت حصانة من أشقائه، تعاملت مع الأمر كأنه أمر طبيعي، مر يومان وهو يقف هادئا بلا صوت، توقفت أمه عن مساعدته، أيقنت أنه سيموت إذن، لست أقرب إليه من أمه، عالمهم مختلف والألم فيه أغرب، مر اليوم الرابع، فاجأني تماما سلوكه، يتحامل على نفسه ويقترب من إناء الطعام ويتسلق خطوتين حتى يصل إليه، اهتز جسدي كله عندما وضع الحبة الأولى في فمه، صغيري لم يستسلم لقدره، صغيري يقاوم، اقتربت منه أكثر، راقبته أكثر، استعاد شيئا من عافيته وحاول دخول العش من جديد، تفهمت شعوره، يريد أن يستعيد إحساسه بالأمان، سأغير اسمه إلى محارب.
استيقظت من نومي على صوت مرتفع جدا يشبه الاستغاثة من قمر ومعه صوت غاضب جامح من حواء، أسرعت إلى القفص، كان منظرا مذهلا، اعتراني غضب جامح، حواء تنقر محارب في رأسه والدماء تنزف منها، صحت فيها بغضب، تراجعت إلى الخلف ثم دخلت فورا إلى العش كأنها تهرب مني، شعرَت بغضبي، ما الذي تفعلينه يا مجنونة؟! أسرعت إلى الإنترنت لأعرف ما الذي يحدث، الهانم تريد إخلاء العش لتستعد للتناسل من جديد، كما أنها لا تحب الأبناء الضعاف، تقتله لأنه ضعيف؟ يا لجبروتها، كان يجب أن أتصرف سريعا، نقلته إلى قفص جديد، المسكين يسير بصعوبة شديدة، كان يجب أن يكون ميتا منذ فترة طويلة، إنه يقاوم، راقبته وهو ينفض جناحيه، كان صوته خافتا جدا، أيقنت أنه لن يبقى للصباح، انقبض قلبي من جديد، عدت إلى فراشي وأنا أستعد لجنازة جديدة في الصباح، تقلبت كثيرا في الفراش، لا تستحق حياة الأسر كل هذه المعاناة، كان عليه أن يستسلم مبكرا، ذهبت إلى القفص وقلبي ينبض بشدة وصدري منقبض، لم أسمع صوتا للجميع، هذه حالتهم حين يكون لديهم ميت.
نظرت له طويلا، بكيت للمرة الأولى منذ بدأت الأحداث، كان محارب يقف شامخا على الجسر في منتصف القفص، استطاع تسلق القفص أخيرا، رفرف أجنحته بخيلاء ، ثم نظر لي في كبرياء، وبدأ يغني من جديد.