الجمعة، 21 يوليو 2017

في قلبه أغنية..... بقلم / المنجي حسين بن خليفة .. تونس......صفوة الكُتَّاب العرب

مصراع النافذة المنفلت من الغلق تلهو به نسمات الصباح الخريفي ، يحدث صوتا كطرقات كفّ على باب أصرّ على فتحه. يفيق صاحب الشعر المنفوش، يضغط بسبابته وإبهامه على كلتا عينيه، علّه يخفي آثار حمرة طول السهر. عمره ما عاد يحتمل هذا الأرق، فروحه حينما اتّخذت طريق الستين سبيلا صارت نواقيس جسده تعلن عن أمراض لها مع الكبر صحبة لا تزول.
سوّى قليلا من جلسته فوق السرير، اتّخذ من الوسادة لظهره متكأ، لا يذكر متى أشعل سيجارته إلاّ حينما رأى دخانها ينفجر من بين شفتيه، كبركان جارت عليه الأرض بثقلها فانفجر، جالت عيناه في أرجاء الغرفة، تذكّرها وهي تجمع ملابسها وخاصتها من الخزانة، صراخها لا يكاد يتوقف: لا... لم أعد أحتمل معيشتك، الحياة معك لا تطاق...
ردّه الوحيد على صراخها هو اخراج أعمدة من الدخان من شفتيه، وتحديقه في حركاتها وهي تتحرك بسرعة في جمع ملابسها ما بين خزانة الملابس والحقائب التي تلتقم ما يُرمى إليها، كأنّه يريد أن يؤرخ في مخيلته لهذا المشهد، وكأنّها لا تريد لهذا المشهد أن يطول.
انقضى من الفراق عامان، لكن كلّما مرّ يوم ازداد الجرح عمقا وألما، قال في نفسه: آه من تلك الوجوه المخفية كيف لنا من سبيل لكشف حقيقتها؟ أكلّ ذاك الحب كان خداعا؟ أكلّ تلك الكلمات والحركات التي تزيد في الروح اتّقادا كانت غيمة تخفي في طيّاتها قحطا، والجاهل مثلي يظنّها عارضا سيمطره؟ أم هي الشُهرة التي كنت ألبسها رداء أزاغت عينيها وأعمت عيني عن حقيقتها؟ أم هي سنّة كلّ واد حين يصبح غير ذي زرع تهجره الحياة؟...
قام من فراشه، تركه متداخلة أطرافه وحوافه، فهو من النادر أن يسوّي اعوجاجه. قام كعادته بطقوس وقفته على الشباك يراقب الحياة وهي تزحف على مهل في هذا الزقاق الضيّق، رمى بعقب سيجارته حين أحرقته بعدما طال خنقه لها.
لمحت عيناه الصورة الكبيرة المعلّقة في الصالون بإطارها المذهّب، وقف أمامها واليدان مضمومتان إلى صدره، عشر سنوات مرّت وهي معلّقة كأنّها أمس، أيكون الزمان خدعة نفسية نسقط في متاهاتها، فنظن الأمس دهرا، ونظن السنوات حين تفرحنا وتسكب في أرواحنا عذب رحيقها مجرّد لحظات. وزير الثقافة يصافحه ويسلّمه وسام الاستحقاق الثقافي في مهرجان الأغنية الملتزمة، بجانبه زوجته تحاول الالتصاق به حتى تظهر في الصورة كشريك في هذا النجاح، وجوه كثيرة يجهلها تُظهر الابتسامة والفرح لهذا التكريم، العود رفيق رحلته بيدي اليسرى.
دوّى في أذنيه هتاف محبيه وهو يصعد للمسرح، هتافهم جناح يطير به إلى عوالم لا حدود لها، تنبجس في داخله ينابيع الفن، ما كانت لتسيل في أنهر نغمات غنائه لولا هذه الهتافات وحبّ جمهوره له، فهم يردّدون معه كلمات أغانيه في حبّ الأرض، ومن طحنتهم الحياة، ومن في عيونهم حلم بقادم الأيام أجمل...
هي نفسه تطلّ عليه من ركام روحه المحطّمة: يا أيّها الغافل أما علمت أنّك في زمن غير زمانك، أما زلت تحلم بأغاني حب الأرض وهموم الناس، إنّ الجمهور الذي دمعت عيونه من نغماتك الحزينة صار في هذا الزمان يرقص على أرخص النغمات، أما زلت تحلم بشهرة لبستها في ذاك الزمان، ها أنت وحدك لا حبيبة تضمّد حزنك، ولا رفاق يشدّون إن طال المسير أزرك. بالأمس كنت فوق المسارح تزرع أعذب الألحان في قلوب حملت همّ القضيّة، واليوم أراك يا أيّها الممتشق الحلم القديم بحّارا خارت قواه، والمجداف أكلته أرَضَةُ الزمن الرديء.
العينان مازالتا مشدودتين لتفاصيل الصّورة المعلقة على الجدار، لكنّ بلل الدمعتين المسكوبتين على جدار الخدّ لن يحدّ سيلهما إلاّ أوتار ذلك العود التي تكاد تنادي: إن غاب كلّ الناس فأنت في هذا الزمن فارسي الوحيد، ودقّات ريشتك على أبواب نغماتي ستفتح في الآفاق أبوابا أغلقها الركود.
احتضن عوده، أسند رأسه عليه، كطفلٍ فَزِعٍ اتّخذ من حضن أمّه ملجأ وأمانا، ودندن:
يا أيّها الوطن المسافر في عتمة اللّيل
انتظرني
فإنّ لي في القلب أغنية
تضيء مسالك الدرب الطويل...