على مقبض الباب وضع يدا ارعشها الزمن , فتح الباب بهدوء وخطا خطوتين
متثاقلتين نحو الخارج , يتكئ على عصا متهالكة , تساعد رجلين ترتجفان من وجع
السنين , اغلق الباب بهدوء كي لا يوقظ العائلة , وهو يقول : اصبحنا واصبح
الملك لله . اخذ يرقب حبات المطر النديّة وهي توشوش اورق الشجر , وتلامس
الارض برقة وحنان , وتحجب الشمس التي اشرقت قيل لحظات . تعبت رجلاه فجلس
على دِكّة امام البيت , ملتحفا بردة اختفت معالمها من تتابع الايام . رفع
نظره الى السماء فسقطت حبّتا مطر في محجري عينيه , تمتم : وحتى انت يا مطر ,
الا يكفي ما يستقبلان من العينين . صوب نظره جهة الغرب وتمتم : متى يا رب ؟
لقد طال الزمان , وحم الشوق غيض الصبر . لا ابغي سوى ان ادفن هناك , طأطأ
الراس واغمض جفنيه , فذهب به الفكر, فشرق وغرّب , وقف هناك , حيث ملعب
الطفولة ومدرج الصبا والشباب , تذكر موسم الحصاد , ودرْس الغلة , ابتسم وهو
يرى نفسه يافعا فوق لوح الدراس الذي يجره الحصان ؛ لتكسير القش واخراج
الحب من سَّنابله , ثم فصله عن القش وجمع الغلة وتخزينها , وكذلك مواسم
الزيت والزيتون والمعصرة وتلال الجفت ( مخلفات عصر الزيتون , تستخدم عادة
للتدفئة) , وصعود الجبال ونزولها لجمع الزعتر البري والميرمية والكمأة في
موسمها . تهللت اساريره عندما مرت على خاطره ذكري اختيار الاهل ل(ام
العيال) , ثم الخِطبة , والعرس الذي تحدث عنه القاصي والداني اياما طويلة .
تذكر الفرحة الكبرى التي عمّت البيت الكبير بقدوم الحفيد الاول للعائلة , و
.... اكفهرّ وجهه وغاصت الابتسامة وهو يتذكر النكبة , سقوط البلدة في
ايدي اليهود المحتلين عام 48, دمعت عيناه وهو يتذكر الحرائق التي شبت في كل
ركن من اركان القرية جراء القصف العشوائي , حيث احرق الاخضر واليابس ,
دمروا البيوت , وقتلوا عددا من شبابها على اعين الناس , وتشرد الباقون ,
تذكر من الشهداء ابن ابو العيد ؛الذي اصابته قذيفة فقصت راسه , ومشى قرابة
خمسين مترا بدون راس , ومحمد الدايخ وحسين ابن ام امبارك وغيرهم رصّتهُم
قوات الاحتلال على سور المدرسة وقتلتهم بدم بارد . دمعت عيناه وهو يتذكر
رحلة العذاب الى حيث استقر به المطاف , بعد ان القى عصا الترحال في احد
مخيمات الشتات . ثم معاناة البحث عن لقمة العيش , والامل بالعودة الذي اخذ
يتلاشى شيئا فشيئا بعد نكسة عام 1967 , ثم تجدده ابان مفاوضات السلام ثم
تلاشى اثر تعثرها , اه على يوم من تلك الايام لا اطمع في المزيد و... تنبه
على صوت حفيده يهزه : (سيدو اصْحَ , انت غرقان ) . طبتم وطابت اوقاتكم .