الاثنين، 24 أبريل 2017

الرحلة السرمدية... بقلم / المنجي حسين بن خليفة .. تونس......صفوة الكُتَّاب العرب

أطلق سراح نظره من أسر جدران المدينة، فما رأى غير صخور حمراء انتصبت تاجا على قمم الجبال، عانقتْ سماء صافية إلاّ من غيمات صغيرة متناثرة، لا تَعِدُ بخير تحمله، ولا بظلّ يكسر شوكة شمس الخريف، التي إن طال مكوثك تحتها صرختْ فيك: أما مللت؟ الجبال تعانقتْ، تفاوتتْ قصرا وطولا، كحفلة رقص صوفيّ تشابكت أيدي المنتشين في دائرة كبيرة.
حين رمته سيّارة الأجرة في هذا القفر، قالوا له إنّه هناك، خلف تلك الشواهق. وقف للحظات في حضرة هذه الرهبة الطبيعية، هو ابن المدينة، رجلاه ما اعتادتا حزونة المكان، وعيناه ماانفكت تتصفح تفاصيل مسالك لا تكاد تبين، الساحة أمام ناظريه فسيحة، وهو ما اعتاد على اتساع لا يحدّه جدار، أو شارع أو ساحة أو حديقة، ولا يكسر اتساعه عائق. تطاولت حوله الجبال، صخور تناثرت في كل ركن، ومجار لسواقي تعلقت أذيالها بالسفوح، لتطل برؤوسها على مجاري وديان سحيقة، غاب الماء عنها وبقت آثار مسيره الجارف.
هناك في مكتبه، نسائم المكيّف تهبّ عليه، بكبسة زرّ يزيدها برودا أو سخونة، كرسيّه الوثير والمطيع يدور حيثما يمّم وجهه، إذا رفع ستائر النوافذ رأى حديقة اصطفت أزهارها الملوّنة بانتظام، أشجارها المطيعة تشكلت كما أراد لها راعيها، كلّما خاطبه أحد موظفيه قال له: يا دكتور، إذا طلب لُبّيَ، وإذا أمر أُستُجِيب، وإذا شيء اشتهاه أُحضِر...لكنّه إذا خلا بنفسه قال: شيء في هذا الكون موجود، أكاد ألامسه، أكاد أحدّد له شكلا، ولونا، ورائحة واسما، لكنّني ما زلت أجهله، أراني بدونه حطام إنسان مرفّهٍ، لكن لستُ أعرفه، هو حولي ربما، لكن لست ألمسه، يقيني يقول لي أنّ أناسا قبلي أدركوه، عرفوه، ملكوه، أصبحوا به ملوكا بلا تيجان، ولا صولجان، به ترفّعوا عن نعيم يفرحنا، يزهّينا، نعيم ترانا به منفوشين الريش كالطاووس بلا روح ولا عقل.
يتفرّس موضع أقدامه قبل أي خطوة يخطوها، فالأحجار المتشبثة بالأرض مزّقت حذاءه الغالي والجميل، بالكاد يجرّه، فبقايا حذاء خير من المشي حافيا فوق سنان الأحجار. الشمس صارت تتدحرج من قبّة سمائها نحو المغيب، والصمت صارت له لغة لا يعرفها إلاّ من رأى نفسه وحيدا في هذه الفلاة، بلا أنيس ولا رفيق، خانته شجاعته، ولولا عزمه للوصول لانكمش تحت صخرة كأرنب بريّ أفزعته مخالب صقر.
تناهى إلى مسمعه صوت زوجته وهي تعاتبه: أجننت؟ ما الذي أصابك؟ ما الذي ينقصك في الحياة حتى تتكبّد عناء هذه الرحلة الغريبة؟ كلّ ما يتمنّاه الناس عندك: المال، والجاه، والممتلكات، وزوجة كما تقول لي دوما: أنك أجمل نساء الدنيا. رد بصوت تكاد لا تسمعه أذناه: آه لو تدري ما الذي ينقصني، حتى أنا أجهله، لا أعرف كنهه وحقيقته، لكنّ روحي لها توق للقياه، وشوق للسّير على أثر خطاه، فبدونه لن تستكين النفس من غليانها، ولا هدأت براكينها.
مسربٌ صغير دلّته إليه الأعشاب البرية، نبتت على حافتيه خوفا من أن تدوسها الأقدام، رمى خطاه فيه، تتبع ظله الذي كلّما مطّ به المسير زادته الشمس المسرعة للاختباء خلف تلك التلال طولا، مسلكه بدأ من السفح، صار يتلوّى ذلك المسلك ويرتقي نحو قمة الجبل، وهو يتبعه، درجات من الصخر منحوتة، وما كان لإنسان أن ينحتها لوحده، فتعاقب في نحتها السالكون. من أحد الشجيرات الصنوبر المتناثرة في المكان، والتي حين تراها تشعر بنشاز تطاولها في مقام الصخور والوديان الجافة، اتخذ منها عصا يتكئ عليها في صعوده على هذا الدرج المتهالك.
على الدرج المغطّى بالبساط الأحمر تمايلت خطواته فخرا، ثمّ اتزنت برصانة العلماء، صافحه كلّ من كان على المنصة بحرارة، أمطروا أذناه بحلاوة كلمات التهنئة، قدّم له رئيس الجامعة شهادة رسالة الدكتوراه، التي كان متميّزا فيها، شعر بشيء في داخله يضيء له ركنا ما كان يعرفه قبل اليوم، صوته المغرور يخاطبه: أنت لست كالآخرين، أنت عالم، ومفكر، وغنيّ...طال وقوفه أمام مرآته، رأى في داخله ثقبا أسودا، صرخ: أغبي أنا، أم هم الأغبياء؟ كلّهم يراني من الخارج قد ملكت نصيبا من دنيا يعبدونها، ولكنّي أراني ضائعا في ثقبي الأسود، ورياح شكوكي ليتها ترمي بشراع رحلتي على شاطئ الحقيقة لترتاح الروح على رمال الطمأنينة.
شيخ على صخرة ملساء جالس قرفصاء، وجهه باتجاه الشمس يرقبها وهي تودع يوم انقضى، لتطلّ على عيون حلموا بها قبل الخروج، هو شيخ اِلْتَهَمَ المكان من بدنه فتجرّد من أي ترف جسدي، نتأت عظام الوجه، واليدين، والركبتين حين انثنتا، أتقن لغة المكان فاتخذ الصمت الرهيب صاحبا ومحاورا. من ورائه بيت صغير يأويه ويحميه، لعلّه توارثه كل الصاعدين هنا للبحث عن حقيقة الإنسان، وغاية وجوده.
انتهى الدرج وما انتهى لهاثه، حتى فاجأه الشيخ بالكلام:
ـ ها قد وصلت ، ليس بعد هذا الدرج مسلكا تسلكه، هنا تنتهي كلّ السبل، وهنا يبدأ كلّ طريق جديد.
ـ وهذا ما كنت أبغي، كم سبيل سلكت بلا جدوى، بلا هدف، وحين أنهيها كأنني ما كنت بدأت.
ـ ماذا ترجو من سبيل متعب ينتهي بك هنا؟
ـ بحثت وحدي عن شيء ينقصني فلم أجده، شيء لا معنى لوجودنا من دونه، ألا ترى معي هؤلاء الناس، هؤلاء الشعوب في كل واد يهيمون، بين صراع وحروب، وقتل ودماء... وما دافعهم إلا البحث عن هذا الشيء لينعموا بالحياة الكاملة؟
ـ مسكين هذا الإنسان، أضواء ساطعة تدله على الطريق ولكنه يسلك الطريق المظلمة، يفني العمر في تلمّس طريقه، لكن بدون جدوى، تنتهي سنوات العمر ولا تنتهي ظلمة طريقه.
ـ لكن يا سيدي طريقنا مظلمة، فأين الأضواء الساطعة؟
ـ غريب قولك، أليس الله نور السماوات والأرض؟ منذ خلق الله الإنسان على الأرض وهو يضيء له طريقه برسالته السماوية، وهو يدلّه على طريق سعادته الحقيقية، سعادة في الأرض تحقق له إنسانيته، وسعادة أخروية جزاء لإتباعه علامات الدّالة على طريقه الصحيح، أليس كل رسول هادٍ لهذا الطريق؟ هنيئا لمن استطاع أن يزيل الغشاوة عن عينيه حتى يبصر هذا النور.
ـ لهذا جئتك حتى تدلني كيف أزيل هذه الغشاوة.
ـ أرى كأس روحك قد مليء بحطام الدنيا، ورانت على قلبك غشاوة، أفرغ كأسك، واصقل غشاوتك، بذلك تولد من جديد، هذه الجبال برهبتها وعظمتها، وهذا الليل بظلمته ونجومه المتراقصة، وهذا الصمت المتسلل إلى أرواحنا، وهذه الصخرة الملساء، كلهم سيعلمونك صقل قلبك وتفريغ كأسك، اتبعهم، وأطعهم يهدونك سواء سبيلك الضائع.
مرّت الأيّام وهو مع الشيخ يصقل أدران ماضيه، ويقارع ذكرياته المحمّلة بكل أصناف الفرح الزائف، وقف مع ذاته، رأى حقيقة مجاهل نفسه، أحسّ بجراح روحه النازفة، تلمّس رأسه، لم يجد إلاّ فكر صنعه غيره، فاستهواه بريقه، فانزلقت إليه رجلاه فتدحرج نحو هاوية الظن بامتلاك الحقيقة، ما أصعبها من لحظة حين اكتشف مساحة جهله، وهو المتحصل على أعلى درجات العلم، ظن حقيقة الحقيقة مخبأة بين طيّات الكتب، ففرح بما قرأ، وسعد بما علم، لكنّه هنا وجد الحقيقة مخبأة بين صخور الجبال، وبين وحشة الوديان، معلّقة بصفاء النجوم، وبرهبة الليل، وبالزمن المسافر حين يخاطبك: حذار مني لا تتّخذني صديقا، أو رفيقا. وبالصمت الصارخة بلغة لا يفهمها إلا من نزع عنه ما حمل، وارتدى لباس المكان. الحقيقة لا تذعن إلاّ لعقل صاف، ونفس مطمئنة، وروح حلمت بالأنوار السرمدية. الحقيقة وهي ذلك السر الذي حيّر العلماء، وشغل الفلاسفة، وهام الشعراء في تقصي خطاها، لكنها استعصت على كل فكر متعصّب، وعلى كل نفس اتخذت الكره موطنا، وعلى كل روح خفت بريقها...وقديما قال من سلك هذا الطريق:"لو يعلم الملوك وأبناء الملوك ما نحن فيه من السعادة لجالدونا عليها بالسيوف".
تفتّح الفجر، عطّر المكان بنوره، بجلسته القرفصاء، على الصخرة الملساء، راقب رحلة شمس التي لها في النهار قصّة لا تنتهي، المكان خال إلاّ منه، هنا كان شيخه فرحل. أذنه تنبئه بلهاث قادم جديد أتعبه الدرج، حملته روحه الباحثة عن جزئها المفقود، أيقن أن رحيله أوشك قريبا، فالصخرة الملساء لا تتحمل اثنين.