السبت، 26 ديسمبر 2015

نُقُوشٌ قَدِيمَة............لـــــــ القدير / سمير عَصَر المُحامى ..........صفوة الكُتَّاب العرب ·

قابَلَتْهُ أول مرة فى رَدْهَةِ مَصَحَّة اللاَّزَوَرْد للطِّبّ النَّفسيّ؛ اعترض سبيلَها وهى فى طريقها لإتمام إجراءات اِلتِحاقها أخصّائيّة مُتدرِّبة؛ وقفت تنظر إليه طويلاً وينظر إليها، اِجْتَاحَتها حميمية عميقة غَيَّبَتها عن الزمان والمكان، همس لها : أنتِ قدرى، خُذينى من هنا، فلنَخْتَصر الطريق ! .
أفاقت على صوت مُشْرِفَة التمريض تطلب منه أن يصعد إلى الدور الأعلى؛ أدار رأسه ببطء ينظر إلى مُحدثته، قهقه قائلاً :
- أصفر ! .
سار على مَهْلٍ فى طريقه إلى الدور الأعلى؛ بينما عضت مُشْرِفَة التمريض على شفتها ثم دنت منها تُرحب بها وتحذرها بصوت خافت :
- لا تستمعى لهذا المُتنبِّئ ولا تُلقِ له بالاً .
ثُم أردفت :
- إنه مريض، يعانى ذهان المرح والإكتئاب .
تساءلت بدهشة :
- مريض ؟!؛ لا يبدو عليه ذلك .
ثُم أضافت مستفسرة :
- مُتنبىء ؟!؛ ماذا يعنى بأصفر ؟!
نكست مُشْرِفَة التمريض رأسها وقد اِحمَرَّ وجهها تكتم ضحكها وهى تغمغم :
- لا أدرى ! .
ودون أن تدرى مسحت بعينيها رِداءها السميك الذى لا يُسْتَشَفُّ ما وراءَه .

صادَفَته للمرة الثانية وهى على بُعد خطوات من حجرة المُدير قبل أن تصل إليها؛ كان باب المكتب مواربا؛ تسمرت فى مكانها؛ بَلَغَ سمعها ضجّة حديث غاضب؛ انقطع فجأة وساد السكون لثوان؛ ثُم سمعت وقع خطوات سريعة تدنو من الباب؛ وعَلاَ عجيجٌ بالدعاء يستمطر اللعنات؛ فُتح على أَثَره الباب بقُوَّة؛ خرج مكفهر الوجه وصفق الباب خلفه بعنف ماضيا إلَى حال سبيله موليا ظهره لها .
فُتح الباب بعد هُنيهة؛ وتوالى خروج الأطباء أعضاء القومسيون الطبيّ للمَصَحَّة فُرادَى؛ واحدا تِلْو الآخر؛ مُنكسى الرءوس فى صمت ووجوم .
جلست الأخصّائيّة إليهم فى الحديقة ذات الزروع الخضراء المُزْهِرة والورود المبهجة، على طاولة مستطيلة؛ كانوا خمسة، جلس كُل اثْنَيْنِ منهما متقابلين بينما جلس هو فى المواجهة مُتَأَنقاً في مَلْبَسِهِ دون داعٍ، فلا تضييق على نزلاء المصحة فيما يرتدونه من ملابس فى جلسات العلاج .
الجو رائع، الشمس حانية، تظللهم نُدْفات متفرقة من السحب؛ ينتشر فى الأجواء رَذَاذُ ماء لطيف يتناثر فى الهواء كالهباء من رَشّاشِ الماء الدَّوَّار فى المساحة الخضراء القريبة .
نظر إليها، اِقْشَعَرَّ جِسْمُها وكأن عينيه عرَّتها من ثيابها، تتغلغل فى طيات دخيلتها؛ تمالكت نفسها؛ أشاحت عنه وجهها عابسة، تشاغلت فيماهى بصدده من عمل؛ أَعْطَت كل نَزِيل بعض الأوراق والأقلام الملوِّنة وطلبت إِلَي كل واحد منهم أن يكتب أو يرسم مايَعِنّ له .
بعد هنيهة وجدته ينظر إلى ورقته وعلى شفتيه اِبْتِسَامَة باهتة؛ سألته :
- لِمَ لا تكتب أو ترسم مايَعِنّ لك ؟ .
أجابها بصوت ضعيف شجيّ :
- اِنتَهَيت مما أرسم .
ثُم عاجلها بلهجة تأكيدية حزينة :
- أنتِ وحيدة أبويكِ .
ابتسمت بزاوية فمها ولم ترد؛ فقد خاب حَدْسُه .
دفع إليها بورقته لتتلقاها وتنظر فيها؛ طالعت أنوبيس إله الموتى عند قدماء المصريين؛ وشعار الصيدلة مرسوما بدقة، كأسا يعلوه ثعبانٌ يرفرف فوقه الصقر حورس، تحيرت فيما ترى، لم تنبس بكلمة، صاح فجأة :
- قد أصبحنا فى الميزان ! .
ردد المرضى خلفه بمرحٍ وبهجة :
- الميزان؛ الميزان ! .
بعد بُرْهَة قصيرة أقبلت مُشْرِفَة التمريض؛ ما إن شاهدها قادمة حتى هتف ضاحكاً :
- بيج !
صاح المرضى خلفه يرددون :
- بيج .. بيج ... بيج ...
تعثرت مُشْرِفَة التمريض؛ اِنْكَفَأَت عَلَى أخصائية العلاج تسَارّها بضرورة إنهاء الجلسة، لتصطحب المرضى لإجراء القياسات الجسدية الدورية .
ثُم أردفت :
- المدير يريد أن يراكى .
مضى المرضى فى زفة صاخبة خلف مُشْرِفَة التمريض يهتفون : بيج ! .
شيعته بنظرات استغراب وحيرة، تتطاير حوله علامات استفهام؛ أنهت تقريرها التقييمى، أخذت وجهتها صوب مكتب مدير المَصَحَّة؛ صكّ سمعها زعيقٌ سَاخِط؛ رأته يجاهد ليخلّص أحدهم من بَراثِن المُمَرِّضين الأشداء الغلاظ؛ بح صوته وهو يصرخ فى هياجٍ شديد :
- آه يا كلاب يا وحوش؛ لا حاجة لهذا المريض للصدمات الكهربائية؛ انقلبت المصحة إلى سلخانة؛ تجارةٌ هى؛ بِئْسَتْ التجارة ! .
خرج المدير من مكتبه مُحتقِن الوجه من الغضب؛ أشار إلى آخرين مَفْتُولي السَّواعِدِ؛ أمسكوا به؛ شلوا حركته؛ عَاجَلَهُ طبيب التخدير بغرز إبرة المِحْقَن فى وريد ظهر يده؛ وهو يَهدِر : - وحوش؛ وحوو... !
ثقُل لسانه؛ خذلته رجلاه؛ تهاوى بين أيديهم؛ تعلقت عيناه المرتخية بها وهم يجرونه بدوره فى طريقهم إلى جناح العلاج بالصدمات الكهربائية .
لمحها المدير؛ سارع باصطحابها إلى داخل مكتبة؛ ربت على كتفها مواسيا لها وهو ينقل لها باقتضاب خبر تعرض أخيها الوحيد لحادث أمام صيدليته منذ ساعات؛ منحها إجازة .
عادت تجلس إلى المرضى فى جلسة العلاج الدَوْرِيَّة، ترتدى ملابس الحداد السوداء؛ زادتها فتنة وجمالا؛ مازال يأخذ مكانه قبالتها على الطاولة؛ امتلأت قليلاً بينما اِزْدَادَ هو نحافة، يرتدى بِيجَامَةً يعلوها روب رقيق؛ يَعصِب رَأْسَهُ بِعِصَابَةٍ بيضاء؛ تنسدل ذؤابتاها خلف رأسه؛ كالعادة أَعْطَت كل نَزِيل بعض الأوراق والأقلام الملوِّنة وطلبت إِلَي كل واحد منهم أن يكتب أو يرسم مايَعِنّ له .
رسم أنوبيس، وإيزيس تحمل طفلا، وأوزوريس موليا ظهره لهما .
اِقْشَعَرَّ جِسْمُها، نظرت إليه قليلا، لم تستطع أن تطيل النظر فى عينيه الغائرتين النفاذتين، اِزْدَادَت حيرتها، ودت لو تطلب منه تفسيرا لما رسمه؛ تِبياناً لما يجرى حولها؛ شَرَعَ فِي الكلام بتوجيه احترافى لدور الأخصّائيّ الاِجتماعيّ فى برامج العلاج بالعمل باِسْتِفاضَة عليم؛ مؤكداً على أن الأمر لايتوقف على الكتابة أو الرسم؛ بل يتعداه إلى تنظيم البرامج الترفيهية والأنشطة الرياضية والتدريب على الحرف المختلفة ودراسة علاقة المرضى فى مجموعاتهم وتفاعلهم مع الجماعات الأخرى .
حاولت تنبيهه بأن أُطْروحَتها فى الجرافولوجي ( Graphology)؛ علم تحليل الشخصية من خلال الصفات الفيزيائية لخط اليد؛ للكشف عن الحالة النفسية لكاتب النص أو الرسم وقت كتابته له وَتقييم صفاته الشخصية؛ ضاع صوتها وهو يصيح :
- زائف؛ ليس علما؛ زائف ! .
قطعت عليه حديثه مُشْرِفَة التمريض :
قالت مُحتجة بحدة : تعلم أنك مَوْقُوفٌ؛ مَمْنُوعٌ من ممارسة العمل يا دكتور .
جفلت عندما علمت أنه طبيب؛ اقتربت مُشْرِفَة التمريض برأسها منه هامسة :
- آن لك أن تُنهى اضرابك عن الطعام، قُل لى؛ أى نوع من الطعام تحب وسيجهزه لك طباخ المصحة .
ثُم أضافت بلهجة تهديدية :
- وإلاّ سأضطر لاطعامك بالأنبوب عن طريق أنفك يا دوك.
انحنت على أذنه وهمست بتعجب ظاهر :
- كيف عرفت أن اللحم الذى نقدمه ميتة؛ هه ؟! .
أغفل إجابتها وقال بملل بصوت واهن : أين الصحف؛ أريد الجرائد ؟ .
استمرت فى همسها متشككة :
أنت نبى؛ نبى؛ هه ؟!
رد عليها بحزم :
- نعم نبى؛ نبى بلا رسالة؛ أرى ما لا يراه الآخرون؛ أتنكرين أنه أبيض وممزق ؟
انتصبت قامتها كمن لدغتها حية؛ لجَّمَها قوله؛ أُرْتِجَ عليها؛ مالبثت أن صاحت مُداوِرة :
- كُفَّ عن تهييج المرضى؛ سأخبر المدير بذلك .
رد عليها بغضب :
- لعنة الله عليكِ وعلى ابن أمى؛ حَوَّلَ المَصَحَّة إلى مصيدة ومعتقل للبؤساء .
ثُم موجها حديثه للأخصائية بمرارة :
- هل ترين الجالس عن يمينك؛ الخادم سمعان الشماس يعانى من ذهان الهوس؛ كان يعد أطروحته فى اللاهوت وقوة التفكير الإيجابى؛ كان علاجه بالأدوية يعطى نتيجة إيجابية ناجحة؛ تكاد الصدمات الكهربائية تأتى على البقية الباقية له من ذاكرته؛ من على يمينه؛ يسرى مُدمن المُخدرات؛ دخل المصحة لعلاجه من الإدمان؛ يوالونه بالحشيش أولا بأول؛ من على يسارك؛ اسماعيل يعانى من فصام ذُهاني عابر؛ يُشفى من تلقاء نفسه؛ من على يساره؛ الحاج توفيق؛ يعانى من الفصام الكتاتوني (التخشبى)؛ وَيعالج بالأدوية؛ رغم كون الكهرباء تعتبر العلاج الأساسي لحالته .
سكت هنيهة؛ ثُم أردف بألم :
- هذه عينة لقسم واحد من أقسام الرجال؛ فما بالك بمايجرى في أقسام النساء؛ أمر وأَنْكي .
قال ذلك؛ ومضى في طريقه يدمدم ويهدر :
- لن أسكت على ذلك أبدا؛ لن أسكت ماحييت ! .
نظرت أخصائية العلاج إليه بدهشة بالغة، انتحت بمُشْرِفَة التمريض جانبا تسألها :
- مَا شَأْنُه ؛ أطبيبٌ هو أم مريضٌ ؟! .
أجابتها باقتضاب وزهق :
- طبيب؛ ثاني اثنين قامت على أكتافهما المَصَحَّة؛ مُعارض عنيد للسلطة؛ لم يجد أخاه مدير المَصَحَّة بُدا من حجزه؛ حتى لا يتعرض للإعتقال .
غابت عن المَصَحَّة شهورا؛ مات عنها زوجها؛ ووضعت طفلها .
عكفت تتهيأ لجلسة قادمة تقرأ تقاريرها التقييمية لمدى الوظائف والقدرات ومظاهر السلوك وخصال الشخصية، قرأت ماخطته من قبل : لا ينصرف عن عالم الخيال إلى الواقع، يبدو أنه مُصاب بـ (الإيجيبتومانيا) الهوس بالمصريات، لا يُثير العمل اهتمامه، دائم الملل والسأم، قدرته على التركيز عالية .
تأملت رسوماته، فغرت فيها، كأنها تراها لأول مرة .
جلست إلى المرضى، لم يكن فى مكانه المعتاد، شهقت وكأن قلبها اُنتُزِع من مكانه؛ اِستَفسَرَت عن سر غيابه، قيل لها سيعود، يذهب ويعود؛ ترك المَصَحَّة دون تصريح ودون مُرافق وخرج يهيم على وجهه .
بقيت وحيدة مع طفلها تنتظر .
سمير عَصَر المُحامى