السبت، 31 أكتوبر 2015

خربوشة والرقص القاتل.....بقلم الأستاذ : صالح هشام /المغرب .....صفوة الكُتَّاب العرب

تشرنق يرقة مخبولة بين مخي ومخيخي ، تنهش تلافيف دماغي من حين لآخر ، حمم في جوف بركان تبحث عن فوهة الخلاص ! ،أضع الصدغين بين الراحتين وأضغط بقوة ! تشوش ذاكرتي المثقوبة أفكار سقراطية !تقول يراقتي المجنونة:
-الرقص يقتل ! وهذا آخر ما توصلت إليه مختبرات الشرطة العلمية !
- أنا لم أسمع بهذا من قبل يا مخبولة !
-سأقص عليك قصة الشيخة المسفيوية التي قتلها الرقص ،إسمع :
- الربيع يزهر: تتناسل الكائنات الحية من الفيل إلى البعوضة ! في الصيف تزهر المحاصيل ! تورق أزهار الصبار والكروم ! تزهر الحياة في نفوس مئات العرسان ! كل يركب فرسه بطريقته الخاصة ! االشيخة المسفيوية قرادة تقتات على أفراح هؤلاء السلاطين الجدد وتمتص دم هؤلاء العرسان ! أ قصى درجات الفرح تفتح أمامها الجيوب على مصراعيها و تدر عليها خيرا عميما دون حساب !
الحائط مبلط بالتراب والتبن ! يشي بوضع العريس الاجتماعي ! تبرجها هذه المرة لا يثير لا انتفاخا ولا ارتعاشة قلب و لا انفجارا ساخنا ! تسند ظهرها للحائط ! تتحسسه ثمة شقوق : شعيرات البرق تنتشر من شرق السماء إلى غربها ، من شمالها إلى جنوبها ! تتوجس خوفا من هذه الشقوق : تزدرد ريقها ، يجف حلقها ! تمرر يدها على جبينها ، لا يزال ملطخا بمرهمات رخيصة من صنع صيني ! تتلمس من مهوى القرط ، إلى النحر، ثديها الأيمن ترهل كما الأيسر! تضيق الحمالة درعا بهما ! تقذف رئتها زفرة ساخنة ممزوجة بحزمة أشواك تخز حلقها ، تعبد الطريق للكلام :
- الجيد ارتخى ! الثدي حبة فلفل مشوي ! الشعر المتضوع برائحة الحناء أشعث من عش الغراب !
بلورتان زجاجيتان ،شفافتان تتسكعان ، يمحوهما كم القفطان ! يملأ الكحل عينيها العسليتين الذابلتين ! حروف الجمال تومض وتخبو بين الفينة والأخرى! ترسم قبلة حارة على جبين أيام زمان ! تتكور الحسرة في حلقها تؤلمها ! تنهشها براثن الحاضر و المسقبل : بحر هائج مده بعشرات الأمتار وجزره بسرعة البرق !
حشرجة بكاء مكتوم على مضض خوفا من شماتة الشامتات !
غريمتها : حية رقطاء تتبرج أمام الحضور ! تبرجها ممزوج بشبقية عاهرة محترفة ، تطمح لاعتلاء عرش زبوبيا ! لكل حشد من القلوب بلقيس تحكمه ! أسباب اعتلاء العرش متوفرة : ردفان مكتنزان ! بطن ضامر ! نهدان مشدودان إلى الصدر بدون حمالات ! علبة معلبة بإحكام لم تعبث بها يد الليالي الحمراء بعد ! ضيفة جديدة مرحب بها في عالم الضياع !
تلفظ الجيوب أسرابا من الحمام الأزرق ، تحوم حولها وتلفها من الخصر إلى مضرب جيبها ،تتفل يمينا وشمالا و تغرز أصابعها في عين الحسود !
يعالجها (الكمنجي) ببعض الجرعات من دخان غليونه الطويل ،المرصع بالنحاس، يقذف ببقايا الكيف ،ينظف الغليون و يضعه في غمده ! وبابتسامة عريضة :
- (خربوشة،)أم (حاجتي في كريني)،أم (عيطة حصباوية )أم (زعرية) ؟!
-كما تريد يا سيدي ، انت الرئيس !
الشيخة المسفيوية مولوعة بخربوشة منذ القديم في كل مناسبة تستحضر مثالب الطاغية عيسى بن عمر قائد عبدة ودكالة وتتغنى بانتصارات خنساء هذه المناطق ؟!
ابتلعت ريقها وأجابته بامتعاض وبتهكم :
- سلعتك الجديدة ، تتقن (خربوشة ، حاجتي في كريني ) وتتقن السواكن وتحفظ (العلوة )أم أنها لا تتقن إلا عض الشفة السفلى وشد الحزام على الخصر و ضغط الأثداء و الأرداف حد الانفجار ! خربوشة ملحمة وعي المرأة المغربية الشاعرة /المغنية ، وخربوشة كانت مسترجلة أكثر من الرجال ، شوكة في خاصرة القائد عيسى بن عمر كبير عبدة ودكالة !
شعرت به من نظراته وكأنه يقول :
- العين لا تعلو على الحاجب ! أنت رأس الفرقة وأنت شيخة الشيخات ! السلعة الجديدة صورة الفرقة و أنت الصوت ،وكل يليق لحاجته ! هي تعرف تحريك الردف وتبالغ في خشخشة الحلي تباهيا ! هي لاتعرف إلا اقتناص الزبناء من الأعراس ! هي شبقية وليست أصيلة ، لا تحفظ لا خربوشة ولا الحصباوي ، لكننا نقتات على عرقها هي أيضا ، فأنت صاحبة العقل والرزانة !
يداعب أوثار الكمنجة في ميزان رقصة شعبية على القعدة ومطلع لخربوشة يلهب حماس الجماهير ويشمتون في الطاغية عيسى بن عمر وتعم فوضى الرضى والاستحسان :
*خربوشة ماشي قصارة وركزة !
*خربوشة نخوة و عزة تشفي الجراح وقت الحزة !
*فينك أ عويسة وفين الشان والمرشان !
*تعديت وخسرت لخواطر وظنيت القيادة على الدوام !
تشابكت أيدي الحضور ودفعت بشاب مفتول العضلات يتقن فن الرقص على القعدة : حوافر حصان تداعب جنبات تلك الأداة محلية الصنع ! تختلط خشخشة العقيق الذي يزركش القفاطين بالحلي والجواهر على الأيدي والأعناق والخلاخل ، في الارجل . يرتب رئيس الفرقة موسيقاه ويضبط تنافرها ! تتحرك ثقيلة الردفين في غنج يوقظ أعشاش الدبور في نفوس ضعاف النفوس : تجر تلابيب قفطانها في حركات استعراضية لمفاتنها ، فهي لا تعرف إلا إثارة الغرائز والنبش في المكبوت وابتزاز الجيوب إلى آخر فلس !
صوتها ترهل منه القوام وبدأ يتداعى ، ويرتخي كالشمعة فوق الحديد الساخن : صورة بلا صوت ،،لكنها ملح الفرقة !
أما شيخة الشيخات : تعرف أكل كتف الساكن ، تدخل في غيبوبة قمة النشاط ! تستحضر مآسي عبدة ودكالة ،صوتها : اتحاد و حلول صوفي في تلك النفوس المقهورة ، ذاكرة حفاظة وسرابة !خربوشة : تهزم الجيفة عيسى بن عمر ،وتعفر وجهه في التراب! فهي تمسح ضعفها بقوة خربوشة،تماضر قبيلتي عبدة ودكالة !
روائع الحصباوي و السواكن فن يتمسك بتلابيبها : طفل صغير يحكم قبضته على أهذاب أمه ! شباب اليوم : لا عيطة ولا ساكن ، لا خربوشة ولاحصباوي ! يلهتون وراء الأرداف المكتنزة والأثداء المشدودة !
الكبار يثأرون من القائد عيسى بن عمر لذلك لا يهتمون بالأرداف ولا بالاثداء سواء كانت مشدودة أو مترهلة ،يبحثون عن الصوت لا عن الصورة !
لطمها كلام والدتها كالصفعة على القفا :
-طريق الكمنجة والقعدة والليالي الحمراء غير سالك ! قمة الضياع ! عيسى بن عمر لا أنت من ثوبه ولا هو منك ، زمنه غير زمنك ! تسترجع الأيام الخوالي فتضرب على القلب قبل الفخذ ! لا سترة ،ولا زوج ، لازواج ،لا ولد ولا أولاد ! حياة الضياع ! سمعتها : إعصار يسبقها ! تصعد منحدرالجبل بدل نزوله ! تتلقفها أوثار الكمنجة وتتيه بين رنين الكؤوس ،و تألف اختلاف الروائح ! الجمال هالة القمر خلف غيوم شاردة ! غنت في أفراح قريناتها وهاهم أولادهن يتمتعون بمفاتن غريمتها ! تصيبها نوبة بكاء مكتوم ، تبتلع حسرتها و تمسح دموعها بكم قفطانها !
تقترب منه حتى تلامس انفاسه انفاسها وتهمس في أذنه :
-العلوة ! العلوة ! العلوة !
يستحسن الجميع اختيار الساكن ويصيحون:
-العلوة ! العلوة !
يحتد إيقاع الكمنجة والقعدة، وثقل الأرداف يدك الأرض غير المبلطة ! تغوص في شطحة صوفية ، تريد مسح مسحة الحزن هذه الليلة ! لم يمنعها السن والترهل من الرقص المجنون تعانق الفراغ ،الضياع ! تحلق بعيدا وأوثارالكمنجة تدغدغ قلبها ، تنتشلها حياتها المسروقة من غيبوبتها ! كانوا يقيمون قداسا لعرقها من رأسها إلى أخمص القدمين ! يضيع منها كل شيء ،تتلف حتى حركاتها الشبقية ! تروح في نوبة رقص ، مجنون ! ذاكرتها شريط سينمائي سريع الايقاع يستحضر حياتها : ما مضى منها وما سيأتي ! تتكور فقاعات ثلجية فوق شفتيها الحمرواوين ، وتغوص عيناها في محاجرهما ! تتهاوى من فوق القعدة ! يتلقفها ذلك الشاب عريض المنكبين ،يسندها على ركبتيه ! تنفرج شفتاها :
-شريبة ماء باردة ! شريبة ماء باردة !
ناولها الشاب الماء البارد يندلق على شفتيها ،تجحظ عيناها وتلتفت يمينا ويسارا ! تزفر زفرتها الأخيرة !
تغمر الدموع عيني الشاب ، يغلق عينيها ويسحب فوقها ثوبا أبيض ، يقول و العبرة تخنقه :
-أعلنوا الوفاة يا ناس ! أعلنوا الوفاة ! عزاؤنا واحد يا ناس !
ويتسلل في زحمة الحشود المتجمعة حول الجثة ، تبتلع حسرتها وحزنها. !
للتوضيخ :***************
*الشيخة المسفيوية : مطربة شعبية ، نسبة لمدينة آسفي .
*خربوشة : مطربة شعبية مناضلة وشاعرة ، قاومت جبروت القائد الطاغية ادريس بنعمر .
*الحصباوي فن من فنون العيطة الشعبية التراثية المغربية .
*العلوة :ساكن ، اغنية شعبية مشهورة في الطرب الشعبي.
*الشيخة : هي المطربة الشعبية مثل العالمة في مصر ،
*دكالة وعبدة : قبيلتان مغربيتان كبيرتان ،